المستضعف في بعض البلدان يلاقي من الظلم والاضطهاد والاستبداد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر! وقد نبّأنا رسول الله – صلى الله عليه وآله – عن هذا الانحدار الأخلاقي الذي وصلت إليه الأمة بقوله: يأتي على الناس زمان المؤمن فيه أذلَُ من شاته! فليس هناك من المخلوقات ما هو أطوع للإنسان من الشاة، والمستضعف في آخر الزمان وفي ظل بعض الحكومات يكون معها أذل وأطوع من الشاة مع صاحبها...
هذا الواقع يُحتم علينا التساؤل عن الأسباب الكامنة وراء ظلم الإنسان لبني جلدته واستمتاعه لرؤيتهم وهم يذوقون مرارة العيش وقسوة الحياة مع إمكانية انتشالهم من الوضع المزري الذي يعيشون فيه! وأول سبب تطالعنا به آيات القرآن الكريم هو التكبر الذي تنطوي عليه النفس الإنسانية الأمارة بالسوء، والذي كان كفيلا بطرد إبليس من رحمة الله، وهو عينه الذي زيّن لفرعون سوء عمله وصده عن سبيل الله..
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَة مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} القصص4، فالعلو والاستكبار هما المقدمة لنتائج وخيمة لا تُحمد عقباها تتمثل في الظلم والفساد في الأرض.. لكن كيف ومتى ينشأ التكبر لدى الإنسان؟!
إن التكبر في أغلب الأحيان يكون نتيجة لتسلط ابن آدم على رقاب الناس وتوليه عليهم، مما يولد في نفسه شعورا جنونيا بالعزة والعظمة {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} الزخرف51، فلا تسعه نفسه لتحمل هذا القدر الكبير من الشعور بالعظمة فيعمل على تجسيد عزته واستكباره بشكل أعمال عدائية تجاه إخوانه في الدين أو نظرائه في
الخلق!{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَة أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّة وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} النمل34..
في هذا المقام، لابد لنا من التوقف لتأمل النتائج المترتبة على ما يعمله المستكبرون في عباد الله من الإثم والعدوان.. إن أول ما يتجرعه المستضعف في ظل حكومة الظالمين له هو كأس الذل والهوان
القاتليْن، والذي يُسقى به صباحا ومساء لحجج وأسباب واهية ما أنزل الله بها من سلطان! إذ يؤاخذ الولد بذنب أبيه، والأخ بذنب أخيه، والرجل بذنب ابن عمه! فيُجرّد بناء على تلك (القيود الوهمية) من كافة حقوقه الإنسانية والمدنية، فلا يحق له بعدها أن يكمل تعليمه، ويُحرم من العمل ليصبح بعدها عالة على المجتمع!
ولَمَوْتُ الْفَتَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ مَعِيشَةٍ
يَكُونُ بِهَا عِبْئا ثَقِيلا عَلى النَّاسِ...
فلو كان هناك ذنب للكبار فما ذنب الصغار إذن؟! إن الدنيا – كما وصفها أبو الأحرار {عليه السلام} وهو يخاطب أنصاره في كربلاء الشهادة – قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها! ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وَ خَسِيسُ عَيْشٍ كَالمَرْعَى الوَبيلْ! ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به؟! وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟! وما هذا الانقلاب في المفاهيم الإنسانية إلا لأن الناس أصبحوا عبيدا للدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإذا مُحّصوا بالبلاء قل الديانون!
لقد سئم الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا من طول عمر معاناتهم، وصار يُسمع لهم تغيظا وزفيرا من شدة غضبهم! وبات الواحد منهم ينادي {ليت شعري أللشقاء ولدتني أمي أم للعناء ربتني، فليتها لم تلدني ولم تربّني} ...
وأصبحوا لا يرون الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما.. ولكن! أي موت يتمنوْن؟! موت في عز أم موت في ذل؟! وليت شعري.. أيرضى من يسير على نهج كعبة المستضعفين وملهم الثوار الإمام الحسين عليه السلام أن يموت ذليلا وهو الذي صرخ في وجه ظالميه والطالبين منه الاستسلام لهم {موت في عز خير من حياة في ذل}؟!
الحسين عليه السلام هو عينه الذي ارتجز يوم عاشوراء عند منازلة أعداءه ببيت شعر أعلن فيه استعداده للشهادة وعدم تحمل عار الخنوع... فقال:
الموت أولى من ركوب العار
والعار أولى من دخول النـار ...