إنّ الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه ونشكره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل ولا ضد ولا ند له، وأشهد أنَّ سيّدنا وحبيبنا وعظيمنا وقرة أعيننا محمّدا عبده ورسوله وصفيّه وحبيبه صلى الله وسلّم عليه وعلى كل رسول أرسله.
أما بعد فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليّ العظيم القائل في محكم كتابه: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مَنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَفَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ سورة يونس/31 .
فاتقوا الله عباد الله ولا تعلقوا قلوبكم بهذه الدنيا الزائلة الفانية، فلقد سئل أبو بكر الوراق عن الزهد فقال: "الزهد ثلاثة أحرف، أما الزاي فترك الزينة، وأما الهاء فترك الهوى، وأما الدال فترك الدنيا".
وسئل أبو عمر الدمشقي عن الزهد فقال: "أن يزهد فيما لَه مخافةَ أن يهوى ما ليس له".
ولقد قال شيخنا الهرري رضي الله عنه وأرضاه: "من اتبع الهوى هوى".
واسمعوا معي هذه القصة التي تبين أن من اتبع الهوى هوى. روي أن عيسى ابن مريم عليه السلام صحبه رجل وقال: يا نبي أكون معك فانطلقا فانتهيا إلى شط نهر فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة فأكلا رغيفين وبقي رغيف فقام عيسى عليه السلام إلى النهر فشرب منه ثم رجع فلم يجد الرغيف فقال للرجل من أخذ الرغيف؟ قال: لا أدري، فانطلق الرجل فرأى ظبية (أي غزالة) ومعها ولدان لها فدعا واحدًا فأتاه فذبحه واشتوى منه فأكل هو وذلك الرجل ثم قال له بعدما ذبحه وأكلا منه خاطب عيسى عليه السلام الظبي بعد أن ذبحه وأكلا منه: قم بإذن الله عز وجل، فقام، فقال للرجل أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف؟ قال : لا أدري، فانطلقا حتى انتهيا إلى مفازة (أي فلاة) فجمع عيسى صلى الله عليه وسلم ترابًا وكثيبًا (أي رمل) ثم قال له: كن ذهبًا بإذن الله عز وجل، فصار ذهبًا، فقسّمه ثلاثة أقسام فقال ثلث لي وثلث لك وثلث للذي أخذ الرغيف، فقال أنا الذي أخذت الرغيف، فقال له سيدنا عيسى عليه السلام كله لك، وفارقه.
فانتهى لهذا الرجل الذي أخذ الذهب رجلان أرادا ان يأخذا منه الذهب ويقتلاه فقال لهما هو بيننا أثلاثًا، فقبلا ذلك، فقال يذهب واحد إلى القرية حتى يشتري لنا طعاما وقال في نفسه: "لأي شىء أقاسمهما في هذا المال؟ أنا أجعل في هذا الطعام سُما فأقتلهما وءاخذ هذا المال جميعه، فجعل فيه سُما، وقالا هما فيما بينهما لأي شىء نجعل له الثلث إذا رجع إلينا قتلناه واقتسمنا المال نصفين، فلما رجع إليهما قتلاه ثم أكلا الطعام المسموم فماتا، فبقي المال، بقي الذهب في المفازة (الفلاة) وأولئك الثلاثة قتلى عنده. فمرّ عليهم عيسى عليه الصلاة والسلام وهم على تلك الحال، فقال لأصحابه: "هذه الدنيا فاحذروها".
إخواني الكرام، الواحد منا مهما جمع من المال ولو وصل ماله إلى قمم الجبال لا بد أن يفارقه ويموت .
باتوا على قلل الجبال يحرسهم *** غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
واستنْيلوا بعد عز عن معاقلهم *** وأسكنوا حفرًا يا بئسما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا *** أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت مفعمة ***من دونها تضرب الأستار والكلل
فأصفح القر عنهم حين ساءلهم*** تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا دهرًا وما قد شربوا *** فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا
هذا و أستغفر الله لي و لكم